سورة الكهف - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


السفينة معروفة وتجمع على سفن وعلى سفائن، وتحذف التاء فيقال سفينة وسفين وهو مما بينه وبين مفردة تاء التأنيث وهو كثير في المخلوق نادر في المصنوع، نحو عمامة وعمام. وقال الشاعر:
متى تأته تأت لج بحر *** تقاذف في غوار به السفين
الأمر البشع من الأمور كالداهية والأد ونحوه. الجدار معروف ويجمع على جدر وجدران. انقض سقط، ومن أبيات معاياة الأعراب:
مرّ كما انقضّ على كوكب *** عفريت جن في الدجى الأجدل
عاب الرجل ذكر وصفاً فيه يذم به، وعاب السفينة أحدث فيها ما تنقص به.
{فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً قال ألم أقل لك أنك لن تستطيع معي صبراً قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله قال أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه أجراً قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً}.
{فانطلقا} أي موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع. وقيل: كان موسى قد صرفه وردّه إلى بني إسرائيل. والألف واللام في {السفينة} لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة. وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا: «فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها {لتغرق أهلها} إلى قوله {عسراً}» قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وكان الأول من موسى نسياناً قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر» واللام في {لتغرق أهلها}. قيل: لام العاقبة. وقيل: لام العلة. وقرأ زيد بن عليّ والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ليغرق بفتح الياء والراء وسكون الغين {أهلها} بالرفع. وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام {أهلها}. وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلاّ أنهما فتحا الغين وشددا الراء.
ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال {لا تؤاخذني بما نسيت} والظاهر حمل النسيان على وضعه. وقد قال عليه السلام: «كانت الأولى من موسى نسياناً» والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولاً وهذا قول الجمهور. وعن أُبيّ ابن كعب أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام. قال الزمخشري: أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي ينفي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السلام. هذه أختي وإني سقيم: أو أراد بالنسيان الترك أي {لا تؤاخذني} بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى.
وقد بيَّن ابن عطية كلام أبيّ بكلام طويل يوقف عليه في كتابه، ولا يعتمد إلاّ قول الرسول: «كانت الأَولى من موسى نسياناً». {ولا ترهقني} لا تغشني وتكلفني {من أمري} وهو اتباعك {عسراً} أي شيئاً صعباً، بل سهِّل عليّ في متابعتك بترك المناقشة. وقرأ أبو جعفر {عسراً} بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذا بصر الخضر {غلاماً} يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه. وقيل: رضه بحجر. وقيل: ذبحه. وقيل: فتل عنقه. وقيل: ضرب برأسه الحائط. قيل: وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال: {أقتلت نفساً زكية}. وقيل: كان الغلام بالغاً شاباً، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام. ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج:
شفاها من الداء الذي قد أصابها *** غلام إذا هز القناة سقاها
وقال آخر:
تلق ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هو جيت لست بشاعر
وقيل: أصله من الاغتلام وهو شدّة الشبق، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوّزاً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. (واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث. وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه.
وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السلام لما قال للخضر {أقتلت نفساً زكية} غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبداً.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل {خرقها} بغير فاء و{فقتله} بالفاء؟ قلت: جعل خرقها جزاء للشرط، وجعل قتله من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء قال {أقتلت}: فإن قلت: فلم خولف بينهما؟ قلت: لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى.
ومعنى {زكية} طاهرة من الذنوب، ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها أذنبت، قيل أو لأنها صغيره لم تبلغ الحنث. وقوله {بغير نفس} يرده ويدل على كبر الغلام وإلاّ فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس. وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو زاكية بالألف. وقرأ زيد بن عليّ والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون {زكية} بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من زاكية لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة.
وقرأ الجمهور {نكراً} بإسكان الكاف. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوباً. والنكر قيل: أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إعراق أهل السفينة. وقيل: معناه شيئاً أنكر من الأول، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه. وفي قوله {لك} زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.
{قال إن سألتك عن شيء بعدها} أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة {فلا تصاحبني} أي فأوقع الفراق بيني وبينك. وقرأ الجمهور {فلا تصاحبني} من باب المفاعلة. وقرأ عيسى ويعقوب فلا تصحبني مضارع صحب وعيسى أيضاً بضم التاء وكسر الحاء مضارع أصحب، ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني علمك وقدره بعضهم فلا تصحبني إياك وبعضهم نفسك. وقرأ الأعرج بفتح التاء والباء وشد النون. ومعنى {قد بلغت من لدني عذراً} أي قد اعتذرت إليّ وبلغت إلى العذر. وقرأ الجمهور {من لدني} بإدغام نون لدن في نون الوقاية التي اتصلت بياء المتكلم. وقرأ نافع وعاصم بتخفيف النون وهي نون لدن اتصلت بياء المتكلم وهو القياس، لأن أصل الاسماء إذا أضيفت إلى ياء المتكلم لم تلحق نون الوقاية نحو غلامي وفرسي، وأشم شعبة الضم في الدال، وروي عن عاصم سكون الدال. قال ابن مجاهد: وهو غلط وكأنه يعني من جهة الرواية، وأما من حيث اللغة فليست بغلط لأن من لغاتها لد بفتح اللام وسكون الدال. وقرأ عيسى {عذراً} بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي عذري بكسر الراء مضافاً إلى ياء المتكلم. وفي البخاري قال: «يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما».
وأسند الطبري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعا لأحد بدأ بنفسه فقال: «رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب» ولكنه قال {فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً}.
والقرية التي أتيا أهلها إنطاكية أو الأبلة أو بجزيرة الأندلس وهي الجزيرة الخضراء، أو برقة أو أبو حوران بناحية أذربيجان، أو ناصرة من أرض الروم أو قرية بأرمينية أقوال مضطربة بحسب اختلافهم في أي ناحية من الأرض كانت قصة والله أعلم بحقيقة ذلك. وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله تعالى. وتكرر لفظ {أهل} على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد وهو أنهما حين {أتيا أهل القرية} لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم، فلما قال {استطعما} احتمل أنهما لم يستطعما إلاّ ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها ليعم جميعهم وأنهم يتبعونهم واحداً واحداً بالاستطعام، ولو كان التركيب استطعماهم لكان عائداً على البعض المأتي.
وقرأ الجمهور {يضيّفوهما} بالتشديد من ضيف. وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وابن محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بكسر الضاد وإسكان الياء من أضاف، كما تقول ميّل وأمال، وإسناد الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيراً ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان وإلى الجماد، أو الحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادراً منه ذلك الفعل. وقد أكثر الزمخشري وغيره من إيراد الشواهد على ذلك ومن له أدنى مطالعة لكلام العرب لا يحتاج إلى شاهد في ذلك.
قال الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر لأن ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة، فتمحل ليرده إلى ما هو عنده أصح وأفصح، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز أدخل في الإعجاز انتهى. وما ذكره أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني من أنه ينكر المجاز في القرآن لعله لا يصح عنه، وكيف يكون ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر.
وقرأ الجمهور {ينقض} أي يسقط من انقضاض الطائر، ووزنه انفعل نحو انجر. قال صاحب اللوامح: من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان فيه حصى، فعلى هذا {يريد أن ينقض} أي يتفتت فيصير حصاة انتهى. وقيل: وزنه أفعّل من النقض كاحمر. وقرأ أبي {ينقض} بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنياً للمفعول من نقضته وهي مروية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش يريد لينقض كذلك إلاّ أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام. وقرأ علي وعكرمة وأبو شيخ خيوان بن خالد الهنائي وخليد بن سعد ويحيى بن يعمر ينقاص بالصاد غير معجمة مع الألف، ووزنه ينفعل اللازم من قاص يقيص إذا كسرته تقول: قصيته فانقاص. قال ابن خالويه: وتقول العرب انقاصت السنّ إذا انشقت طولاً. قال ذو الرمة: منقاص ومنكثب. وقيل: إذا تصدعت كيف كان. ومنه قول أبي ذؤيب:
فراق كقص السن فالصبر إنه *** لكل أناس عشرة وحبور
وقرأ الزهري: ينقاض بألف وضاد معجمة وهو من قولهم: قضته معجمة فانقاض أي هدمته فانهدم. قال أبو عليّ: والمشهور عن الزهري بصاد غير معجمة.
{فأقامه} الظاهر أنه لم يهدمه وبناه كما ذهب إليه بعضهم من أنه هدمه وقعد يبنيه. ووقع هذا في مصحف عبد الله وأيد بقوله {لتخذت عليه أجراً} لأن بناءه بعد هدمه يستحق عليه أجراً. وقال ابن جبير: مسحه بيده وأقامه فقام. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقال مقاتل: سوّاه بالشيد أي لبسه به وهو الجيار. وعن ابن عباس: دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء. قال الزمخشري: كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة فلم يجدا مواسياً، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن {قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً} وطلبت على عملك جعلاً حتى تنتعش به وتستدفع الضرورة انتهى. قال ابن عطية: وقوله {لو شئت لاتخذت عليه أجراً} وإن لم يكن سؤالاً ففي ضمنه الإنكار لفعله، والقول بتصويب أخذ الأجر وفي ذلك تخطئة ترك الأجر انتهى. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وابن بحرية ولتخذت بتاء مفتوحة وخاء مكسورة، يقال تخذ واتخذ نحو تبع واتبع، افتعل من تخذ وأدغم التاء في التاء. قال الشاعر:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها *** نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق
والتاء أصل عند البصريين وليس من الأخذ، وزعم بعضهم أن الاتخاذ افتعال من الأخذ وأنهم ظنوا التاء أصلية فقالوا في الثلاثي تخذ كما قالوا تقي من اتقى. والظاهر أن هذا إشارة إلى قوله {لو شئت} أي هذا الإعراض سبب الفراق {بيني وبينك} على حسب ما سبق من ميعاده. أنه قال {إن سألتك} وهذه الجملة وإن لم تكن سؤالاً فإنها تتضمنه، إذ المعنى ألم تكن تتخذ عليه أجراً لاحتياجنا إليه.
وقال الزمخشري: قد تصور فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه كما تقول: هذا أخوك فلا يكون هذا إشارة إلى غير الأخ انتهى. وفيما قاله نظر.
وقرأ ابن أبي عبلة {فراق بيني} بالتنوين والجمهور على الإضافة. والبين قال ابن عطية: الصلاح الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية ومستعمل استعمال الأسماء، وتكريره {بيني وبينك} وعدوله عن بيننا لمعنى التأكيد. {سأنبئك} أي سأخبرك {بتأويل} ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، أي بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون. وقرأ ابن وثاب سأنبيك بإخلاص الياء من غير همز. وعن ابن عباس: كان قول موسى في السفينة وفي الغلام لله، وكان قوله في الجدار لنفسه لطلب شيء من الدنيا فكان سبب الفراق. وقال أرباب المعاني: هذه الأمثلة التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى وإعجاله، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحاً في اليم؟ فلما أنكر قتل الغلام قيل له: أين إنكارك هذا من وكز القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجرة؟ {سأنبئك} في معاني هذا معك ولا أفارقك حتى أوضح لك ما استبهم عليك.


روي أن موسى عليه السلام لما عزم الخضر على مفارقته أخذ بثيابه، وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بمَ أباح لك فعل ما فعلت، فلما التمس ذلك منه أخذ في البيان والتفصيل، فقال: {أما السفينة} فبدأ بقصة ما وقع له أولاً. قيل: كانت لعشرة إخوة، خمسة زمني وخمسة يعملون في البحر. وقيل: كانوا أجراء فنسبت إليهم للاختصاص. وقرأ الجمهور: مساكين بتخفيف السين جمع مسكين. وقرأ عليّ كرم الله وجهه بتشديد السين جمع مساك جمع تصحيح. فقيل: المعنى ملاحين، والمساك الذي يمسك رجل السفينة وكل منهم يصلح لذلك. وقيل: المساكون دبَغَة المسوك وهي الجلود واحدها مسك، والقراءة الأولى تدل على أن السفينة كانت لقوم ضعفاء ينبغي أن يشفق عليهم، واحتج بهذه الآية على أن المسكين هو الذي له بلغة من العيش كالسفينة لهؤلاء، وأنه أصلح حالاً من الفقير. وقوله {فأردت} فيه إسناد إرادة العيب إليه. وفي قوله: فأراد ربك أن يبلغا لما في ذكر العيب ما فيه فلم يسنده إلى الله، ولما في ذلك من فعل الخير أسنده إلى الله تعالى.
قال الزمخشري: فإن قلت: قوله {فأردت أن أعيبها} مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب فلم قدم عليه؟ قلت: النية به التأخير، وإنما قدم للعناية ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها {لمساكين} فكان بمنزلة قولك: زيد ظني مقيم.
وقيل في قراءة أبيّ وعبد الله كل سفينة صالحة انتهى. ومعنى {أن أعيبها} بخرقها. وقرأ الجمهور {وراءهم} وهو لفظ يطلق على الخلف وعلى الأمام، ومعناه هنا أمامهم. وكذا قرأ ابن عباس وابن جبير. وكون {وراءهم} بمعنى أمامهم قول قتادة وأبي عبيد وابن السكيت والزجاج، ولا خلاف عند أهل اللغة أن وراء يجوز بمعنى قدام، وجاء في التنزيل والشعر قال تعالى {من ورائه جهنم} وقال {ومن ورائه عذاب غليظ} وقال {ومن ورائهم برزخ} وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي *** لزوم العصا يحني عليها الأصابع
وقال سوار بن المضرب السعدي:
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي *** وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقال آخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا *** فتأمن أعداء وتسأمني أهلي
وقال ابن عطية: وقوله {وراءهم} عندي هو على بابه، وذلك أن هذه الالفاظ إنما تجيء يراعى بها الزمن، والذي يأتي بعد هو الوراء وهو ما خلف، وذلك بخلاف ما يظهر بادي الرأي، وتأمل هذه الألفاظ في مواضعها حيث وردت تجدها تطرد، فهذه الآية معناها أن هؤلاء وعملهم وسعيهم يأتي بعده في الزمن غصب هذا الملك، ومن قرأ أمامهم أراد في المكان أي إنهم كانوا يسيرون إلى بلده وقوله تعالى في التوراة والإنجيل.
إنها بين يدي القرآن، مطرد على ما قلناه في الزمن. وقوله {من ورائهم جهنم} مطرد كما قلنا من مراعاة الزمن. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الصلاة أمامك» يريد في المكان، وإلاّ فكونهم في ذلك الوقت كان أمام الصلاة في الزمن. وتأمل هذه المقالة فإنها مريحة من شغب هذه الألفاظ ووقع لقتادة في كتب الطبري {وكان وراءهم ملك}. قال قتادة: أمامهم ألا ترى أنه يقول {من ورائهم جهنم} وهي من بين أيديهم، وهذا القول غير مستقيم وهذه هي العجة التي كان الحسن بن أبي الحسن يضج منها قاله الزجّاج. ويجوز أن كان رجوعهم في طريقهم على الغاصب فكان وراءهم حقيقة انتهى. وهو كلام فيه تكثير وكأنه ينظر إلى ما قاله الفراء. قال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك، إنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام والدهر تقول: وراءك برد شديد، وبين يديك برد شديد جاز الوجهان لأن البرد إذا لحقك صار من ورائك، وكأنك إذا بلغته صار بين يديك. قال: إنما جاز هذا في اللغة لأن ما بين يديك وما قدامك إذا توارى عنك فقد صار وراءك.
وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة، ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وأكثر أهل اللغة على أن وراء من الأضداد انتهى.
قيل: واسم هذا الملك هدد بن بدد وكان كافراً. وقيل: الجلندي ملك غسان، وقوله {فكان أبواه مؤمنين} في هذا حذف وهو أن المعنى وكان كافراً وكذا وجد في مصحف أبيّ. وقرأ ابن عباس: {وأما الغلام فكان} كافراً وكان {أبواه مؤمنين} ونص في الحديث على أنه كان كافراً مطبوعاً على الكفر، ويراد بأبويه أبوه وأمه ثنى تغليباً من باب القمرين في القمر والشمس، وهي تثنية لا تنقاس. وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري: فكان أبواه مؤمنان، فخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي على أن في كل ضمير الشأن والجملة في موضع خبر لكان، وأجاز أبو الفضل الرازي أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب، فيكون منصوباً، وأجاز أيضاً أن يكون في كان ضمير الغلام والجملة خبر كان.
{فخشينا} أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين {طغياناً} عليهما {وكفراً} لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، ويلحق بهما شراً وبلاءً، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفرة، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان، وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه ويطغيا ويكفرا بعد الإيمان. وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بحاله وأطلعه على سرائر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته.
وفي قراءة أُبيّ فخاف ربك، والمعنى فكره ربك كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره. ويجوز أن يكون قوله {فخشينا} حكاية لقول الله عز وجل بمعنى فكرهنا كقوله {لأهب لك} قاله الزمخشري. وفي قوله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته مذهب المعتزلة في قولهم بالأجلين، والظاهر إسناد فعل الخشية في خشينا إلى ضمير الخضر وأصحابه الصالحين الذين أهمهم الأمر وتكلموا. وقيل: هو في جهة الله وعنه عبر الخضر وهو الذي قال فيه الزمخشري، ويجوز أن يكون إلى آخر كلامه. قال الطبري: ومعناه وقال: معناه فكر هنا. قال ابن عطية: والأظهر عندي في توجيه هذا التأويل وإن كان اللفظ يدافعه أنها استعارة أي على ظن المخلوقين، والمخاطب لو علموا حاله لوقعت منهم خشية الرهق للوالدين.
وقرأ ابن مسعود فخاف ربك، وهذا بين الاستعارة في القرآن في جهة الله تعالى من لعل وعسى فإن جميع ما في هذا كله من ترج وتوقع وخوف وخشية إنما هو بحسبكم أيها المخاطبون. و{يرهقهما} معناه يجشمهما ويكلفهما بشدة، والمعنى أن يلقيهما حبه في اتبّاعه. وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير {أن يبدلهما} بالتشديد هنا وفي التحريم والقلم. وقرأ باقي السبعة والحسن وابن محيصن بالتخفيف، والزكاة هنا الطهارة والنقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة، والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة، وافعل هنا ليست للتفضيل لأن ذلك الغلام لا زكاة فيه ولا رحمة. والظاهر أن قوله {وأقرب رحماً} أي رحمة والديه وقال ابن جريج: يرحمانه. وقال رؤبة بن العجاج:
يا منزل الرحم على إدريسا *** ومنزل اللعن على إبليسا
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم {رحماً} بضم الحاء. وقرأ ابن عباس {رحماً} بفتح الراء وكسر الحاء. وقيل الرحم من الرحم والقرابة أي أو صل للرحم. قيل: ولدت غلاماً مسلماً. وقيل: جارية تزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم. وقيل: ولدت سبعين نبياً. رُوي ذلك عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا بعيد ولا تعرف كثرة الأنبياء إلاّ في بني إسرائيل، ولم تكن هذه المرأة منهم انتهى. ووصف الغلامين باليتم يدل على أنهما كانا صغيرين. وفي الحديث: «لا يتم بعد بلوغ» أي كانا {يتيمين} على معنى الشفقة عليهما. قيل: واسمهما أصرم وصريم، واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا، والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة قاله عكرمة وقتادة. وقال ابن عباس وابن جبير: كان علماً في مصحف مدفونة. وقيل: لوح من ذهب فيه كلمات حكمة وذكر، وقد ذكرها المفسرون في كتبهم ولا نطول بذكرها، والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية.
وقيل: السابع. وقيل: العاشر وحفظ هذان الغلامان بصلاح أبيهما. وفي الحديث: «إن الله يحفظ الرجل الصالح في ذريته» وانتصب {رحمة} على المفعول له وأجاز الزمخشري أن ينصب على المصدر بأراد قال: لأنه في معنى رحمهما، وأجاز أبو البقاء أن ينتصب على الحال وكلاهما متكلف.
{وما فعلته} أي وما فعلت ما رأيت من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن اجتهاد مني ورأي، وإنما فعلته بأمر الله وهذا يدل على أنه نبيّ أوحي إليه. و{تسطع} مضارع اسطاع بهمزة الوصل. قال ابن الكسيت: يقال ما استطيع وما اسطيع وما استتيع واستيع أربع لغات، وأصل اسطاع استطاع على وزن استفعل، فالمحذوف في اسطاع تاء الافتعال لوجود الطاء التي هي أصل ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل، ثم أبدلوا من تاء الافتعال طاءً، وأما استتيع ففيه أنهم أبدلوا من الطاء تاء، وينبغي في تستيع أن يكون المحذوف تاء الافتعال كما في تسطيع.
وفي كتاب التحرير والتحبير ما نصه: تعلق بعض الجهال بما جرى لموسى مع الخضر عليهما السلام على أن الخضر أفضل من موسى وطردوا الحكم، وقالوا: قد يكون بعض الأولياء أفضل من آحاد الأنبياء، واستدلوا أيضاً بقول أبي يزيد خضت بحراً وقف الأنبياء على ساحله وهذا كله من ثمرات الرعونة والظنة بالنفس انتهى. وهكذا سمعنا من يحكي هذه المقالة عن بعض الضالين المضلين وهو ابن العربي الطائي الحاتمي صاحب الفتوح المكية، فكان ينبغي أن يسمي بالقبوح الهلكية وأنه كان يزعم أن الولّي خير من النبيّ قال: لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبيّ يأخذ بواسطة عن الله، ولأن الولي قاعد في الحضرة الألهية والنبيّ مرسل إلى قوم، ومن كان في الحضرة أفضل ممن يرسله صاحب الحضرة إلى أشياء من هذه الكفريات والزندقة، وقد كثر معظِّمو هذا الرجل في هذا الزمان من غلاة الزنادقة القائلة بالوحدة نسأل الله السلام في أدياننا وأبداننا.


الضمير في {ويسألونك} عائد على قريش أو على اليهود، والمشهور أن السائلين قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك. وذو القرنين هو الإسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق. وقال وهب: هو رومي وهل هو نبيّ أو عبد صالح ليس بنبي قولان. وقيل: كان ملَكاً من الملائكة وهذا غريب. قيل: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمروذ وبخت نصر، وكان بعد نمروذ. وعن عليّ كان عبداً صالحاً ليس بملك ولا نبيّ ضرب على قرنه الأيمن فمات في طاعة الله ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه الله فسمي ذا القرنين. وقيل: طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها. وقيل: كان له قرنان أي ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وعن وهب لأنه ملك الروم وفارس وروى الروم والترك وعنه كانت صفيحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. قال الزمخشري: ويجوز أن يسمى بذلك لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه، وكان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره انتهى. وقيل غير ذلك في تسميته ذا القرنين والمشهور أنه الإسكندر. وقال أبو الريحان البيروتي المنجم صاحب كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية: هو أبو بكر بن سمي بن عمير بن إفريقس الحميري، بلغ ملكه مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير حيث قال:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً *** ملكاً علا في الأرض غير مبعد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي *** أسباب ملك من كريم سيد
قال أبو الريحان: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن وهم الذين لا تخلوا أسماؤهم من ذي كذي المنار، وذي يواس انتهى. والشعر الذي أنشده نسب أيضاً إلى تبع الحميري وهو:
قد كان ذو القرنين جدي مسلماً ***
وعن عليّ وابن عباس أن اسمه عبد الله بن الضحاك. وعن محمد بن عليّ بن الحسين عياش. وعن أبي خيثمة هو الصعب بن جابر بن القلمس. وقيل: مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث. وعن عليّ هو من القرن الأول من ولد يافث بن نوح. وعن الحسن: كان بعد ثمود وكان عمره ألف سنة وستمائة. وعن وهب: كان في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
والخطاب في {عليكم} للسائلين إما اليهود وإما قريش على الخلاف الذي سبق في السائلين. وقوله {ذكراً} يحتمل أن يريد قرآناً وأن يريد حديثاً وخيراً، والتمكين الذي له {في الأرض} كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها.
قال بعض المفسرين: والدليل على أنه الإسكندر أن القرآن دل على أن الرجل المسمى بذي القرنين بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وإلى أقصى المشرق وإلى أقصى الشمال، بدليل أن يأجوج ومأجوج قوم من الترك يسكنون في أقصى الشمال، وهذا الذي بلغه ملك هذا الرجل هو نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط لا شك أنه على خلاف العادات وما كان كذلك وجب أن يبقى ذكره مخلداً على وجه الدهر، وأن لا يكون مختفياً، والملك الذي اسمه في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلاّ الإسكندر وذلك أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان مع طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر وبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية ودان له العراقيون والقبط والبربر، ثم نحو دار ابن دارا وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حربه، واستولى الإسكندر على ممالك الفرس وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات بها.
وورد في الحديث: «إن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان: سليمان بن داود، وذو القرنين» وقد تقدم ذكر ذلك وثبت في علم التواريخ أن الذي هذا شأنه ما كان إلاّ الإسكندر فوجب القطع أن المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلفوس اليوناني. وقيل تمكينه في الأرض بالنبوة وإجراء المعجزات. وقيل: تمكينه بأن سخر له السحاب وحمله عليها وبسط له النور فكان الليل والنهار عليه سواء. وقيل: بكثرة أعوانه وجنوده والهيبة والوقار وقذف الرعب في أعدائه وتسهيل السير عليه وتعريفه فجاج الأرض واستيلائه على برها وبحرها.
{وآتيناه من كل شيء} أي يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه {سبباً} أي طريقاً موصلاً إليه، والسبب ما يتوصل به إني المقصود من علم أو قدرة أو آلة، فأراد بلوغ المغرب {فاتبع سبباً} يوصله إليه حتى بلغ، وكذلك أراد المشرق {فاتبع سبباً} وأراد بلوغ السدين {فاتبع سبباً} وأصل السبب الحبل، ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى المقصود. وقال الحسن: بلاغاً إلى حيث أراد. وقرأ زيد بن علي والزهري والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى والكوفيون وابن عامر {فاتبع} ثلاثتها بالتخفيف. وقرأ باقي السبعة بالتشديد والظاهر أنهما بمعنى واحد. وعن يونس بن حبيب وأبي زيد أنه بقطع الهمزة عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، وبوصلها إنما يتضمن الاقتفاء دون هذه الصفات.
وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة.
وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي {حمئة} بهمزة مفتوحة والزهري يلينها، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين. وقال أبو حاتم: وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها، وفي التوراة تغرب في ماء وطين. وقال تبع:
فرأى مغيب الشمس عند مآبها *** في عين ذي خلب وثاط حرمد
أي في عين ماء ذي طين وحم أسود. وفي حديث أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال: «أتدري أين تغرب يا أبا ذر؟» فقلت: لا. فقال: «إنها تغرب في عين حامية» وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله {في عين} متعلق بقوله {تغرب} لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في {عين حمئة} إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض، ومعنى {تغرب في عين} أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها، وزعم بعض البغداديين أن {في} بمعنى عند أي {تغرب} عند عين.
{ووجد عندها قوماً} أي عند تلك العين. قال ابن السائب: مؤمنين وكافرين. وقال غيره: كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت. وقال وهب: انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه. وقال أبو زيد السهيلي: هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود. بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام.
وظاهر قوله {قلنا} أنه أوحى الله إليه على لسان ملك. وقيل: كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام. وقال عليّ بن عيسى: المعنى {قلنا} يا محمد قالوا {يا ذا القرنين} ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا. المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه.
وقوله {إما أن تعذب} بالقتل على الكفر {وإما أن تتخذ فيهم حسناً} أي بالحمل على الإيمان والهدى، إما أن تكفر فتعذب، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب. قال الطبري: اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم، وتفصيل ذي القرنين {أما من ظلم} و{أما من آمن} يدفع هذا القول ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم. فقال: أما من دعوته فأبى إلاّ البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين، وأما من آمن وعمل ما يقتضيه الإيمان فله جزاء الحسنى. وأتى بحرف التنفيس في {فسوف نعذبه} لما يتخلل بين إظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه، فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلاّ فالقتل.
وقوله {ثم يرد إلى ربه} أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في {نعذبه} على عادة الملوك في قولهم نحن فعلنا. وقوله {إلى ربه} فيه إشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله تعالى، إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه، ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطباً لأتباعه لا لربه تعالى، وما أحسن مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم، وهو قوله {فسوف نعذبه} ثم أخبر بما يلحقه آخراً يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا ولما ذكر ما يستحقه {من آمن وعمل صالحاً} ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو {الحسنى} أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن آمن لأجل جزائه في الآخرة، وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم أتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله {وسنقول له من أمرنا يسراً} أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولاً ذا يسر وسهولة كما قال قولاً ميسوراً. ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدباً مع الله تعالى وإن كان يعلم أنه يحسن إليه فعلاً وقولاً.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي ومحمد بن جرير {فله جزاء} بالنصب والتنوين وانتصب {جزاء} على أنه مصدر في موضع الحال أي مجازي كقولك في الدار قائماً زيد. وقال أبو علي قال أبو الحسن: هذا لا تكاد العرب تكلم به مقدماً إلاّ في الشعر.
وقيل: انتصب على المصدر أي يجزي {جزاء}. وقال الفراء: ومنصوب على التفسير والمراد بالحسنى على قراءة النصب الجنة. وقرأ باقي السبعة {جزاء الحسنى} برفع {جزاء} مضافاً إلى {الحسنى}. قال أبو عليّ جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو يراد بالحسنى الحسنة والجنة هي الجزاء، وأضاف كما قال دار الآخرة و{جزاء} مبتدأ وله خبره.
وقرأ عبد الله بن إسحاق {فله جزاء} مرفوع وهو مبتدأ وخبر و{الحسنى} بدل من {جزاء}. وقرأ ابن عباس ومسروق {جزاء} نصب بغير تنوين {الحسنى} بالإضافة، ويخرج على حذف المبتدأ لدلالة المعنى عليه، أي {فله} الجزاء {جزاء الحسنى} وخرجه المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو جعفر {يسراً} بضم السين حيث وقع.
{ثم أتبع سبباً} أي طريقاً إلى مقصده الذي يسر له. وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن {مطلع} بفتح اللام، ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو القياس. وقرأ الجمهور بكسرها وهو سماع في أحرف معدودة، وقياس كسره أن يكون المضارع تطلع بكسر اللام وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب، يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي {مطلع} بكسرها في اسم المكان والزمان على ذلك القياس، والقوم هنا الزنج. وقال قتادة هم الهنود وما وراءهم. والستر البنيان أو الثياب أو الشجر والجبال أقوال، والمعنى أنهم لا شيء لهم يسترهم من حر الشمس. وقيل: تنفذ الشمس سقوفهم وثيابهم فتصل إلى أجسامهم. فقيل: إذا طلعت نزلوا الماء حتى ينكسر حرها قاله الحسن وقتادة وابن جريج. وقيل: يدخلون أسراباً. وقال مجاهد: السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. قال ابن عطية: والظاهر من اللفظ أنها عبارة بليغة عن قرب الشمس منهم، وفعلها بقدرة الله فيهم ونيلها منهم، ولو كانت لهم أسراب لكان ستراً كثيفاً انتهى. وقال بعض الرجاز:
بالزنج حرّ غير الأجسادا *** حتى كسى جلودها سوادا
وذلك إنما هو من قوة حرّ الشمس عندهم واستمرارها. كذلك الإشارة إلى البلوغ أي كما بلغ مغرب الشمس بلغ مطلعها. وقيل {أتبع سبباً} كما {أتبع سبباً}. وقيل: كما وجد أولئك عند مغرب الشمس وحكم فيهم كذلك وجد هؤلاء عند مطلع الشمس وحكم فيهم. وقيل: كذلك أمرهم كما قصصنا عليكم. وقيل: {تطلع} طلوعها مثل غروبها. وقيل: {لم نجعل لهم من دونها ستراً} أي مثل أولئك الذين وجدهم في مغرب الشمس كفرة مثلهم، وحكمهم مثل حكمهم في التعذيب لمن بقي على الكفر والإحسان لمن آمن.
وقال الزمخشري: {كذلك} أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره. وقيل {لم نجعل لهم من دونها ستراً} مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأكنان من كل جنس، والثياب من كل صنف. وقال ابن عطية: {كذلك} معناه فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب، وأخبر بقوله {كذلك} ثم أخبر تعالى عن إحاطته بجميع ما لدى ذي القرنين وما تصرّف فيه من أفعاله، ويحتمل أن يكون {كذلك} استئناف قول ولا يكون راجعاً على الطائفة الأولى فتأمله، والأول أصوب انتهى. وإذا كان مستأنفاً لا تعلق له بما قبله فيحتاج إلى تقدير يتم به كلاماً.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7